الإقطاع الحزبي واحتكار الدولة

  • أكبر خطيئة مارسها البعث الشمولي تلك المتصلة بإعدام الحياة السياسية في العراق من خلال اعتماده لنظرية الحزب الواحد في إدارة الدولة. لقد مثّل حزب البعث العفلقي الصدامي أكبر وأشرس إقطاعية حزبية عرفها العراق الحديث، ولم تغادر السلطة إلاّ بتدمير الدولة في 2003م. ولعل من أهم النتائج المباشرة للإقطاعية البعثية الإحتكارية هي: مصادرتها للتطور الطبيعي للحياة السياسية فكرياً وثقافياً وحزبياً ونخبوياً. لقد أنتجت الإقطاعية البعثية واقعاً قانونياً وسياسياً وأمنياً صارماً لم يترك خياراً أمام أي توجه سياسي آخر سوى التصفية التامة أو الإنعزال السياسي أو الهجرة لممارسة السياسة،.. وفي حين انعدمت كلياً الحياة السياسية داخل العراق نشأت بالمقابل حياة سياسية في الخارج يمكن وصفها بالمشوّهة وغير الصحية، كونها بعيدة عن بيئتها وثقافتها وممارستها الميدانية، وبعيدة عن ملامسة التحولات الجوهرية في بنية المجتمع، وواقعة تحت تأثير الهيمنة التي تمارسها هذه الدولة أو تلك.

  • الحزب، تنظيم سياسي قانوني يستهدف الوصول إلى السلطة إنتخابياً وإداراتها من خلال برنامج معلن وواضح، فالحزب مؤسسة سياسية مدنية تمارس فعل السياسة لأجل الحكم، وتتداوله سلمياً وفقاً للقانون، وهو ليس منظمة سرية تآمرية أو طابوراً خامساً أو مؤسسة أبوية شمولية تحتكر الدولة لتبتلعها. إنّ وظيفة الحزب إشكالية حقيقية لم تعرف تنضيجاً على مستوى الفكر والإشتغال عراقيا، فكانت أن أنتجت هذه الإشكالية إشكاليات أخرى تتصل بالحياة السياسية في نظام الدولة الحديثة التي غابت عنها تقاليد العمل الحزبي فغابت عنها تقاليد العمل السياسي ففقدت الدولة أحد شروط تطوّرها الجوهري، باعتبار أنّ الحياة السياسية الصحّية رهن وجود مؤسسات حزبية فاعلة في ظل دولة القانون والمؤسسات.
  • الحديث عن ولادة وسيطرة الإقطاعيات الحزبية لا ينفك عن طبيعة الأحزاب ذاتها ولا ينفصل أيضاً عن طبيعة النظام السياسي المعتمد للدولة، فالإقطاعية الحزبية هي نتاج طبيعي للأحزاب والأنظمة الشمولية (اليسار والثيوقراط والقومي المنّغلق نموذجاً)، فاعتماد الحزب للشمولية الآيديولوجية (أياً كانت) كأساس سياسي يقود بالضرورة إلى شمولية النظام السياسي في حال تمكّنه من السلطة وهو ما يقود بالنتيجة إلى احتكار السلطة وإنشاء إقطاعية حزبية تبتلع الدولة. هذه تلازمية حتمية بين نشوء الإقطاعيات الحزبية وبين طبيعة نظام الدولة وبين النمط الآيديولوجي للأحزاب التي تتسيد المشهد وتمارس السلطة فيه.
  • نشوء الإقطاع الحزبي في الدولة التوافقية العرقطائفية حتمي أيضاً بحكم طبيعة النظام السياسي المعتمد، فقيام النظام السياسي على وفق مبدأ المكوّن العرقي الطائفي سينتج أحزاباً مغلقة ومنغلقة على مجتمعاتها المحلية وهوياتها الفرعية، وستمارس الأحزاب السياسة انطلاقاً من تمثيلها الفئوي الذي يدمج السياسي التمثيلي بالمجتمعي الفرعي، فتكون المحصلة نشوء أحزاب تحتكر المجتمعيات العرقية الطائفية التي يتشكّل منها مجتمع الدولة التوافقية، وباعتماد المحاصصة العرقطائفية للدولة ستتأسس إقطاعيات حزبية تحتكر تمثيل وحصص المكوّنات المجتمعية بالسلطة لأنها ستكون هي المستفيد النهائي من نظام المحاصصة.
  • كما تخنق إقطاعية الحزب الواحد الدولة، كذلك تخنقها الإقطاعيات الحزبية في ظل النظام التوافقي المكوّناتي، وتحرير الدولة من الإقطاعيات الحزبية أولوية لإصلاحها من خلال إعادة النظر بأسس النظام المكوّناتي وبتشريع قوانين (أحزاب وانتخابات) ضابطة لمنع نشوء اقطاعيات حزبية تحتكر الدولة.