وأسقط العراق كيان التّوحش

   في 10/12/2017 أسقط العراق كيان داعش الموغل بالتّوحش، وأعلن انتصاره الوطني،.. وها هو اليوم يحتفل بالنصر ليس على كيان داعش وحسب بل على المشروع العنفي التقسيمي برمته، فقد برهنت تجربة داعش أنها مشروع متكامل مدعوم ومخدوم ومُغطى دينياً سياسياً اعلامياً مالياً هدفه إعادة إنتاج خارطة الدول وجغرافيا المجتمعات، وهو خيار أكبر وأعقد من كونه نزوة لتنظيم متطرف تمكّن من فعلته بغفلة من الزمن وبقدراته الذاتية،.. إنه مشروع (دولة/دول) تماهت فيه الأجندات والمصالح والسينايورهات،.. وقد أسقطه العراق.

   في ذكرى الإنتصار، كيف لنا أن نقرأ هذا المنجز التاريخي باستحقاقاته واشتراطاته وتوظيفاته القادمة؟ وهنا علينا أن نؤكد على المعطيات التالية:

  • على العالم أن لا ينازعنا مجد النصر، فالإنتصار على داعش هو انتصار عراقي بامتياز، صاغه العراقيون بدماء وصبر وإصرار جميع قومياتهم وطوائفهم وقواهم ورموزهم الدينية والسياسية والمجتمعية الخيّرة، ودور العالم بكل قواه إنما كان دور المساند ليس إلاّ.
  • الإنتصار على كيان داعش هو انتصار قيمي حضاري قبل أن يكون انتصاراً عسكرياً، فقد هزم العراق خيار التوحش أخلاقياً وحضارياً، وعلى المجتمعات المتحضرة نزع القبّعة للعراق.
  • بالإنتصار على داعش فقد أسقط العراق خيار العنف كأداة صراع في معادلته الداخلية، وأسقطها كخيار إرهاب في معادلة الصراع الإقليمي، وعلى متبني وداعمي العنف والإرهاب وعي الدرس.
  • أثبتت المحنة أنَّ الإشتغال على التناقضات الطائفية سيرتد على الجميع دونما استثناء، ومن السذاجة تصوّر الإنتصار بمعادلة الصراع المشتغل بتوظيف العنف طائفياً.
  • معركة العراق كانت كونية، فلم تكن معركة الإنتصار معركة عسكرية وحسب بل كانت معركة متعددة الإتجاهات والساحات، عسكرية أمنية مخابراتية اقتصادية ثقافية إعلامية، داخلية إقليمية دولية، متداخلة الملفات والأجندات، ولا يجوز تقزيم الإنتصار على أنه انتصار بندقية وحسب، بل هو بالعمق انتصار إدارة لمعركة كونية خاضها العراق وقيادته وشعبه بكل حرفية ونظافة واقتدار بأصعب الظروف السياسية والإقتصادية والمجتمعية وأعقد معادلات الصراع الإقليمي الدولي، وهو إنجاز نوعي للدور القيادي العراقي السياسي والعسكري والإداري، وعلينا الإحتفاء بقدراتنا العراقية وعدم تقزيم منجزاتنا الوطنية.
  • أثبتت المعركة أنَّ حسابات البعض بتوظيف الإرهاب في صراع الستراتيجيات والمصالح خطيئة ستراتيجية بدورها، وأن خطر الإرهاب واستيطانه سيزعزع منظومات الأمن والسلام دونما استثناء، وأنَّ مواجهته واستئصاله مهمة أممية يجب أن تكون خارج إطار الصراعات البينية بين الدول والأمم، وعلى الجميع استشعار مسؤولية مكافحة الإرهاب دونما توظيف أو تسويف أو مختالة.
  • إنتصار العراق شكّل مصداً لإنهدام دول ومجتمعات أمنياً وسياسياً، وعلى العالم أن يعيد للعراق الدين بالوقوف معه سياسياً واقتصادياً لإعادة بنائه واستقراره، حفاظاً على أمنه واستقراره هو قبل العراق.
  • في الوقت الذي يجب فيه الحرص على اجتثاث منابع الإرهاب وتبني منظومات دينية ثقافية تربوية اقتصادية إعلامية متكاملة لتحصين المجتمعات والدول من خطره، إلاّ أنَّ الجهد الأساس يجب أن يرتكز على منع كيانات الإرهاب من مسك أرض أو اختراق سلطة أو إنشاء كيان، فقوة التّحكم والسيطرة والإنتشار مقترنة بامتلاك الأرض والسلطة.
  • خرج العراق من معركته مع داعش أصلب مجتمعياً وأقوى عسكرياً وأكثر تماسكاً سيادياً، وكان الأمل أن يتم توظيف معطيات هذا المنجز التاريخي لإعادة بناء منظومته السياسية بما يتناسب ومهام إعادة البناء الرصين للدولة، وقد برهنت التجربة السياسية اليوم أنَّها لم تع الدرس جيداً وذلك بإصرارها على نفس الأداء السياسي التناحري الذي يحول دون البدء بمرتسمات جديدة لواقع مغاير للدولة بما يعزز من وحدتها وتكاملها وحصانتها ضد الإنقسام والفوضى والعنف والإرهاب.

جغرافية داعش

  • إنتصر العراق على كيان داعش المسمّى بـ (دولة الخلافة/الخرافة)، أمّا داعش كتنظيم اسلاموي مسرف بالتوحش والتطرف فهو باق ببقاء التأصيل والتأويل والذاكرة والتمذهب الديني الآيديولوجي، وباق ببقاء حيثيات الصراع السياسي/الإقتصادي/المجتمعي على امتلاك الدولة/الأمّة، وباق ما دام هناك صراع هويات دينية طائفية وصراع أجندات ومصالح إقليمية دولية. وهنا علينا أن نتذكر الجهد الدولي بالتصدي لتنظيم القاعدة في 2001م، فقد تلخص بالقضاء على دولة طالبان/القاعدة لكنه لم يغلق ملف القاعدة كتنظيم إرهابي. وعليه نشير: أنَّ لداعش وأخواتها أكثر من سبب وأكثر من محرّك لينتج أكثر من تموضع، فداعش عراقياً غيرها داعش ليبياً أو داعش أوربياً، فإذا كان داعش عراقياً نتاج لعراق ما قبل داعش وتوظيفه للتناقضات السياسية والمجتمعية وللدعم الإقليمي في صراع المحاور وصولاً الى اجتياح الدولة العراقية وملامسة إسقاطها، فإن تنظيم داعش أوربياً لم ينتجه التناقضات السياسية المجتمعية، بل أنتجه عوامل أخرى تاريخية واقتصادية ومجتمعية، وأخرى تتصل بأفكار التعايش والإندماج وقبول التعددية، وعوامل أخرى تتصل بحرب الهويات الدينية الثقافية، وانعكاس الصراعات الشرق أوسطية وطريقة التعاطي مع الأزمات الدولية لهذه الدولة الأوربية أو تلك.
  • جغرافية داعش جغرافيا عقائدية سياسية عسكرية أمنية مصالحية، وإنهاؤها عراقياً يعني انهاء جغرافيته العسكرية، لكن لن ينتهي تنظيم داعش بالقضاء على كيانه الجغرافي بل سيعيد تموضعه حسب مقتضيات الصراع السياسي/المجتمعي والديني/المذهبي وصراع الأجندات والمصالح عراقياً إقليمياً دوليا. ولكل تموضع داعشي هنا خصوصياته واشتراطاته بالمواجهة سواء كانت اشتراطات أمنية محضة أم فكرية أم سياسية أم مجتمعية أم اقتصادية أم تربوية ثقافية، ووضع قصة داعش بسلة واحدة خطأ منهجي وستراتيجي يخلق وعياً زائفاً ويقزّم القصة إلى جغرافية أرض دون جغرافية الفكر والثقافة والآيديولوجية والولاء والمصلحة،.. مثل هذا التقزيم يبني واقعاً قاصراً عن إدراك عمق الخطر وسبل مواجهته.
  • قوة/ضعف تنظيم داعش وتمظهره بمسيمّات جديدة/قديمة مرتبط بشكل كبير بمشروع الدولة الوطنية المدنية بمعناها الشامل كمشروع سياسي مجتمعي اقتصادي ثقافي تربوي، ونمو تنظيم داعش أو اضمحلاله، تراجعه أو امتلاكه لمصادر القوة مرتبط جدلياً بنجاح/فشل/ضعف مشروع الدولة كبنية وسياسات وإدارة، من هنا نرى أنَّ داعش وأخواتها تؤكد على استنفاذ الطاقة الكامنة في مبادىء الدولة الأساس المواطنة/الديمقراطية/المدنية، وتعمل على طرح الممانعة التاريخية المتأتية من الأنا الدينية/الثقافية كمصد لإفشال مبادىء الدولة أو إفراغها من محتواها. وكلما قوي مشروع الدولة وتجذرت المدنية كلما انحسرت آيديولوجيات التطرف وكيانات التوحش، من هنا نرى أن داعش وأخواتها لم يستطيعوا مثلا التجذّر والتوسع في المجتمعات المدنية أو تلك التي شهدت بنى راسخة للدولة أو تلك التي لا تستقطبها الذاكرة التاريخية المذهبية الصراعية..الخ وبقيت معزولة ومنبوذة رغم المشتركات العقدية والواقعية التي اشتغلت عيها لإبتلاع تلك المجتمعات، بينما نجحت في المجتمعات التي انهارت فيها الدولة/السلطة، أو فشلت بإعادة إنتاج نفسها، أو تلك التي لم تشهد جوهراً مدنياً في بنية مجتمعاتها، أو تلك المستقطَبة بفعل الذاكرة والإنتماء والولاء الهوياتي الفرعي المذهبي أو الإثني..الخ.

 

المخادعة الخبيثة

  • هناك مخادعة خبيثة تلك التي تصوّر تنظيم داعش على أنه خطيئة عراقية خالصة، يُراد من من خلالها تبرئة المناشىء الدينية الفكرية للإسلام السياسي السلفي، وتبرئة للحواضن المنتجة والداعمة والمؤيدة للحركات الدينية العنفية، وهي أيضاً محاولة للتعمية على الفعل التأسيسي التوظيفي لأكثر من دولة ومحور إقليمي أنشأ ونسّق وغطى العديد من الحركات السلفية الجهادية التي تشترك وداعش بالتأسيس والفكر والمنهج والهدف لتخلق منها ظاهرة مجتمعية/سياسية تعيد إنتاج خارطة المجتمعات والدول. وهي أيضاً محاولة للقفز على تداعيات طريقة التغيير في 2003م وطبيعة السياسة التي أُعتمدت لإعادة بناء التجربة العراقية أمريكيا، وهي أيضاً محاولة للتغطية على ردات الفعل الداخلية والإقليمية على فعل اسقاط الدولة العراقية في 2003م وما مورس من إغراق للتجربة العراقية الجديدة بمستنقعات الفوضى والدم كجزء من الصراع مع الأميركان أو كجزء من الرفض للتغيير أو كجزء من الدخول كلاعبين في ترتيبات البيت العراقي الجديد وجغرافيا النفوذ لهذه الدولة أو تلك،.. وهي وهي..الخ من عوامل التمويه لأغراض التبرئة وتحصين موقف المنتجين والحاضنين والداعمين والمتلاعبين بظاهرة الإسلام السياسي العنفي/الإرهابي الذي كان وما زال العراق أكبر ضحاياه.
  • داعش عراقياً هي نتاج مسسلسل طويل ثابت الأهداف متغيّر العناوين والمسمّيات والتموضعات، إنه خيار استخدام العنف والإرهاب كأداة سياسية لحسم معركة اسقاط تجربة التغيير منذ 2003م أو لترويضها أو لابتزازها. ويجب الإعتراف بأنَّ العنف كان أداة صراع سياسي لكسب مشروع الدولة، وأنَّ الملف الأمني هو ملف سياسي بامتياز، وأنَّ سلاح العنف وصل مع داعش الى أقصى درجات قوته وتوحشه وإرهابه، لكنه سقط كخيار إسقاط للتجربة العراقية برمتها، والذي بقي منه خسائر إرتدت على الجميع كمجازر وانتهاكات ودمار هائل.
  • المطلعون على الملف الأمني يعلمون أنَّ إسقاط الموصل لم يكن في 10/6/2014، فعشية إسقاطها كانت هناك 25 ألف حاضنة متماهية مع الدواعش والمسميات المسلحة الأخرى،.. وقبل إسقاطها بكثير كان قد أُسقطت شرعية الدولة وتُرك الفضاء مفتوحاً لتحكّم القوى المناوئة والعنفية بمجريات الحياة الموصلية،.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت القاعدة -الأب الشرعي لداعش- مستوطنة ومتغلغة ومتحكمة حد النخاع بحركة الحياة في الموصل وبالذات منذ مطلع 2009م. يكفي أن تشير المصادر إلى أنَّ واردات الأتاوات/الجباية في الموصل وحدها وصلت الى 11 مليون دولار شهريا، فقد أُجبر أصحاب المحال التجارية والصاغة والمقاولون والأطباء على دفع الآتاوات الشهرية، حتى أنَّ الحكومة العراقية شكّلت لجنة بإسم (لجنة مكافحة الجزية) سنة 2012م للتصدي لهذه الظاهرة إلاّ أنه تم إجهاض عملها لتستمر الجزية كمورد مالي مهم للقاعدة. ولنا أن نتصور فقط عدد جباة الجزية الذين كانوا يجمعون 11 مليون دولار شهرياً!! ومنه نستنتج مَن كان يسيطر على الحياة في مدينة الموصل. نعم، لم يُسقط الموصل 400 داعشي غزوها على حين غرة،.. الموصل سقطت بالتخادم السياسي المصالحي داخلياً وإقليمياً، وسقطت أيضا بسبب البنية الخاطئة للدولة وبسبب سوء الإدارة وتهاون وتخاذل أغلب مسؤوليها الذي أنتج كل هذا الخراب،.. الموصل سقطت قبل إسقاطها، ويوم 10/6/2014 كان يوم إعلان سقوطها رسمياً.
  • نعم، عراق ما قبل داعش مكّن داعشاً (ومَن خَلفها) وحوّلها من مجرد تنظيم إرهابي الى (دولة) تحكم 40% من الأرض العراقية بمواطنيها وثرواتها، والسبب يتلخص بحجم التناقضات المجتمعية السياسية التي أفرزتها بنية الدولة وبالأداء السياسي والإداري الكارثي والتي وظفتها داعش ومن تماهى معها لتسقط محافظات كبرى ولتصول وتجول بأفعالها الإجرامية من قتل وسبي وتهجير، وبتغطية ودعم من كيانات دينية وسياسية داخلية واقليمية كجزء من إدارة الصراع على امتلاك الدولة العراقية أو نحتها وفق مصالحهم،.. فكيف يمكن لتنظيم معزول ومناقض للدولة أن يُسقط الدولة لو لم تكن الدولة أساساً مسمّى دولة تعاني بنيتها من خلل جوهري يساعد أعداءها على اختراقها وهدّها،.. وهنا جوهر الأزمة، إنها أزمة نظام سياسي مكوّناتي متعارض ومتصارع لم يستطع إنتاج دولة قائمة بذاتها وقادرة على مواجهة التحديات،.. ويجب ألاّ نتعلل هنا بالمؤامرات الداخلية والخارجية التي مّكنت داعش من فعل فعلتها، فليست هناك دولة لا تعاني التآمر على تنوعه السياسي أو الأمني او الإقتصادي، وتفسير الهزيمة بالمؤامرة والإنهيار بالتآمر لن ينهي القصة ولا يفسر كل الذي حدث، فالذي حدث هو انهيار دولة بجميع مظاهرها، ولم يوقف سيل الإنهيار السريع إلا الرمزيات الدينية والإدارة السياسية والعسكرية وتضحيات الجموع الشعبية التي تداعت دفاعاً عن شعبها ودولتها.

 

إشتراطات التوظيف

     يتوجب على مّن بيده فعل الدولة اليوم توظيف الدروس المستفادة من معركتنا مع داعش، سواء على صعيد المسببات أو المغذيات أو المناخات، وهي مهمة لم تنته بعد، وتتطلب جهوداً كبيرة على المستوى السياسي والمجتمعي والإقتصادي، وتتطلب أيضاً بلورة وتراكماً للمنجزات السياسية العسكرية السيادية المتحققة مع اشتراطات جوهرية أخرى لتدعيم نموذج الدولة القادرة على الصمود والتطور، منها:

  • تمركز وفاعلية للنواة الصلبة للحكم من خلال مشروع (المواطنة/الدولة/المؤسسة) قبال مشروع (المكوّن/السلطة/الحزب). لضمان وحدة الدولة وقوة سلطاتها ومؤسساتها، بما في ذلك الحد من ابتلاع الأحزاب للدولة، وتحجيم التوافقية المكوناتية المحاصصاتية، وإعادة هيكلة فاعلة ومنضبطة للقوى العسكرية والأمنية وللسلاح، وإعادة الهيبة للدولة من خلال تعزيز سيادة القانون، وفرض خطط أمنية حازمة للمدن تحول دون الإنفلات، وخطوات جريئة لضرب الفساد والترهل والفوضى.
  • مصالحات مجتمعية تضمن مستوى مقبولاً من الوحدة المجتمعية الوطنية، وبما يضمن العدالة والمصالح لجميع العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم وإثناياتهم.
  • ممارسة الحكم الفعّال بإدارة الدولة بما في ذلك استمرار الإصلاحات الشاملة والحاسمة لجميع بنى الدولة الإدارية والإقتصادية والتعليمية والتنموية.. وفق قواعد الحكم الرشيد.
  • اعتماد سياسة تخادم المصالح والتي تؤمّن الإحتواء الإيجابي للمحاور الإقليمية وبما يولّد تفهماً اقليمياً ودولياً بأنَّ عراقاً موحداً وقوياً ومسالماً سيحفظ المصالح والتوازنات الإيجابية في المنطقة ويحول دون التصادم المميت بين الستراتيجيات المتصارعة.
  • فك الإرتباط بملفات المنطقة قدر الإمكان، وضمان عدم التماهي بالجبهات الجيوطائفية وحرب الستراتيجيات الإقليمية، بما يسهّل إدارة النموذج العراقي وتحقيق ذاته ومصالحه بعيداً عن التأثر المباشر بملفات المنطقة المعقدة والمتفجرة.
  • خارطة طريق واضحة لحماية ورعاية مشروع الدولة من التدمير الذاتي أو الإفتراس الخارجي لحين وقوف مشروع الدولة على قدميه كليا.