ان سؤال بناء الدولة المدنية تم طرحه في عوالم الامس بيد ان الاجابات لم تكن مكتملة.. لماذا؟
بإختصار لان الديمقراطية لم تكن في حسابات المجيبين عن هذا السؤال بقدر ما كان همهم بناء الدولة الوطنية المستقلة التي انشغل حكامها بالتفرد والتسلطية دون التعدد والديمقراطية.
وكيما لا نلوم انفسنا او نتهم الآخر فقط نرى ان سؤال بناء الدولة هو سؤال سجالي وليس سؤالا جاهزا معلبا فمن حيث المبدأ ان عملية بناء واعادة بناء الدول على مر العصور تحكمت به ثلاث جدليات هي :-
- جدلية الداخل والخارج فأي كيان سياسي يراد الانتقال به الى دولة فأن الارادتين الداخلية والخارجية تتحكم في عملية الانتقال .
- جدلية التجزئة والتوحد فأي كيان سياسي يراد انتقاله الى دولة فأن الحصيلة المتمثلة بالدولة اما ان تكون حصيلة تجزئة اقليم او توحد اكثر من اقليم .
- جدلية تنازع الهويات الكبرى مع الهويات الفرعية فأي كيان سياسي يراد انتقاله الى دولة فأن هوية الدولة تصبح محل تنازع بين الهوية السياسية الوطنية الجامعة والهويات غير السياسية الفرعية الضيقة ( قومية حضارية دينية مذهبية – اجتماعية قبلية او عشائرية او عائلية ).
كذلك فأن عملية بناء الدولة المدنية تحتاج الى مستلزمات موضوعية واخرى وضعية لخلق العناصر الاساسية للدولة المدنية المتمثلة بـ :-
- الافراد المواطنين لا الرعايا ولا الاتباع ولا الزبائن .
- الجماعات العصرية ( مؤسسات المجتمع المدني ) لا الجماعات التقليدية ( العوائل – العشائر – القبائل – المذاهب –القوميات ) في مجتمعاتنا المتعددة التنوعات .
- السلطة الشرعية القائمة على ركني المقبولية بالانتخابات واستمرار المقبولية بالانجازات .
وبقدر تعلق الامر بالمستلزمات بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لا بد ان تكون الديمقراطية حاضرة .
ففي عالمنا المعاصراضحت الديمقراطية (فكرة ونظام) منظومة ذات مستويات قابلة للقياس .فهنالك اكثر من تصنيف لمعايير قياس مستوى الديمقراطية في اي بلد ، ومن ابرزها على سبيل المثال لا الحصر – تصنيف (بوليتي 4)وتصنيف الوكالة الامريكية لتطوير الديمقراطية ،وتصنيف مؤسسة(بيت الحرية)الامريكية.
وهذه التصنيفات احتضنت مجموعة من المعايير لقياس الديمقراطية جميعها يتصل بـ (الحريات السياسية – حرية التعبير والتجمع وحق التظاهر – وجود معارضة من عدمها – دور العسكر في الحياة السياسية –الدستور المدني –تطبيق القانون –احترام حقوق الانسان –التداول السلمي للسلطة –المشاركة السياسية- الانتخابات ...الخ).
اخيرا نريدها دول مدنية لا كيانات سياسية والدول المدنية المنشودة في المنطقة العربية لا تستقيم دون ان يكون حاملها السياسي عقد اجتماعي موصوف يعتمد
- مبدأ التمثيل بالانتخابات
- مبدأ التعددية بشقيها تعددية الرأي والتعددية الحزبية .
- مبدأ استقلال القضاء .
- احترام حقوق الانسان .
- مبدأ التداول السلمي للسلطة .
ولا تستقيم تلك الدول المدنية المنشودة في المنطقة العربية دون ان يكون حاملها الاجتماعي فئات وسطى مستنيرة وميسورة .
ولا تستقيم تلك الدول المدنية المنشودة في المنطقة العربية دون ان يكون حاملها الاقتصادي اقتصاد مستقر ومتوازن .. الاستقرار يعني اقتصاد يلبي الاحتياجات الاساسية التي تحافظ على كرامة الانسان .
والتوازن يعني اقتصاد يغادر العقم الانتاجي والخصوبة الاستهلاكية التي تتصف بها اقتصادات معظم دول المنطقة .
كذلك لا تستقيم تلك الدول المدنية المنشودة في المنطقة العربية دون ان يكون حاملها الثقافي قائم على :-
- سيادة النزعة الفردية ( المواطنية ) على النزعة الجماعية التقليدية ( المكوناتية ) في الفكر والفعل .
- سيادة النزعة العقلانية على النزعات اللاعقلانية فكرا او سلوكا .
- سيادة النزعة العلمانية على النزعات اللاعلمانية فكرا او سلوكا .
يصاحب كل ذلك الحذر كل الحذر من اطروحات شيطنة الدول الوطنية لتبرير تدميرها والعودة ببلدان المنطقة الى مرحلة ما قبل الدولتية .
مع الانتباه ان شعوب المنطقة لا تستحق ماضيها ولا حاضرها بل تستحق مستقبل افضل منهما .