الدولة المدنية.. الضمانات والإشتراطات

حسين درويش العادلي

 

الدولة العراقية الحالية (خامة) ما قبل تأريخ الدولة المدنية فضلاً عن الدولة المدنية ذاتها،.. بل هي فعلياً مسمى دولة لم تتخذ صورتها النهائية بعد ولم تتصلب وفق شكل يحدد هويتها وطبيعتها.

  بالعموم، فإن الدولة المدنية الديمقراطية هي انتاج القيم والحواضن والإشتراطات المدنية ومنها تشكّل النواة المدنية الصلبة، وللأسف لم تتوافر جملة العوامل هذه طيلة عمر الدولة العراقية الحديثة منذ 1921م، والسبب الأساس يتصل بطبيعة المدارس السياسية العراقية التي تعاطت مع مشروع الدولة العراقية الحديثة، فالمدارس السياسية العراقية لم تتبنى وتطور منظومة (القيم والحواضن والإشتراطات) المدنية القادرة على انتاج نواة مدنية صلبة للمجتمع والدولة، ففشل لديها مشروع الدولة/الأمة، لأنها لم تشتغل لمشروع الأمة/الدولة على اساس من القيم والحواضن والاشتراطات الوطنية المدنية الديمقراطية. إنّ مشروع الدولة فشل وانتحر على يد المدارس السياسية العراقية منذ عهد التأسيس للدولة العراقية الحديثة 1921م بسبب فشل البناء العضوي المدني الديمقراطي للمدارس العراقية،.. ونحن اليوم نحيا وسط ارهاصات التأسيس لمشروع دولة ديمقراطية لم تتضح معالمها بعد، وما لم تنجز شروط وطنيتها ومدنيتها فلا أمل بانبعاثها ورسوخها كدولة.

 

القيم والضمانات

والحواضن المدنية

  لم تتشكل بعد نواة صلبة لمدنية عراقية قادرة على انتاج مجتمع ومن ثم دولة مدنية. إنّ النواة المدنية الصلبة تتصل بتكامل ثلاثة مستويات:

1- تكامل القيم المدنية التي تنتجها المدينة (منظومة الفضائل المدنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..) المستلة من روح المدينة على حساب روح البداوة أو القرية في انتاجها للمجتمع،.. ولم تتشكل -عراقياً- بعد أية روح مدنية أو حتى مدينية، فلقد قضي على المدينة كنسق جدلي وسياق ابداعي منتج للتطور التاريخي، وأيضاً قضي على المدنية بفعل غياب قيمها وضماناتها وحواضنها.

2- سيادة الضمانات المدنية التي تنتجها الدولة، وتتمثل بالحقوق المدنية، والحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إنّ اشتراط سيادة الضمانات المدنية مرهون باعتماد المواطنة الديمقراطية في أصل نشوء وبقاء الدولة، ولا يمكن الحديث عن حقوق سياسية ومدنية واقتصادية وثقافية دون اشتراطات حماية قانونية توفرها الدولة، والدولة المدنية هي النمط الوحيد بين انماط الدول القادرة على ضمان سيادة منظومة الحقوق المدنية، من هنا كانت الضمانات المدنية مقترنة دوماً بنجاح مشروع الدولة المدنية، وعمر العراق الحديث لم يشهد قيام تجربة الدولة المدنية.

3- توافر الحاضن المدني كنسق ومؤسسات، والحاضن للثقافة المدنية هنا هو المجتمع المدني، ولم يتشكل بعد مجتمعنا المدني. إنّ نسق مدنية المجتمع يرتبط بثلاثة عوامل: الرابطة والوعي والأداء، فنسقية المجتمع المدني تنتظم على أساس من المواطنة القانونية والثقافية الكاملة، وعلى أساس من المواطنية الفاعلة في العلاقات النسقية (عمودية وأفقية) بين الأفراد والمجتمع والدولة، وعلى أساس من الأداء (الفردي والجماعي) الطوعي والمسؤول المستند الى القانون والسلم. وأيضاً يفتقد المجتمع المدني تكامل وفاعلية نسق المؤسسات كوسيط حقيقي بين المواطن والدولة. لذا لا نجد فاعلية حقيقية للحاضن المدني كنسق ومؤسسات في مجتمعنا بعد على مستوى الظاهرة.

 

التلمس والتحفظ

  هل بدأنا نتلمس بعض آثار التشكل لنواة مدنية عراقية؟ يمكن قبول هذا القول بتحفظ شديد. القبول يستند الى معطيات، منها: زوال النظام السياسي الشمولي، ونمو الثقافة وانفتاحاتها المتنوعة، وتطور الفاعليات الإعلامية، وادخال ودخول المجتمع في جدليات كبرى على مستوى الموروث والذاكرة والتابوات والشموليات والتشريع والعقل والإبداع،.. هناك حركية تفعل فعلها في اللاوعي العراقي، وقد تكون جزءا من صيرورة لثقافة مدنية تشكل بداية لتبلور نواة مدنية صلبة،.. وقد لا تتشكل، إذا ما لم يتوفر لها ثلاثي (القيم المدنية والضمانات المدنية والحاضن المدني)، وهذا هو مبعث التحفظ الشديد، والخوف الشديد الذي أحمله،.. فلا يمكن اكتساب (القيم والضمانات والحواضن) المدنية دون كسب مشروع بناء الدولة، فجميع البناءات والأنساق تقوم وتتقوم على أساس من مشروع الدولة وطبيعتها الفلسفية والوظيفية. وهذا جوهر المعركة الكونية الدائرة في العراق حاليا.

  المفترض، أنّ الهدف النهائي للعملية السياسية الحالية هو انتاج الدولة، فالعملية السياسية (خارطة طريق) لانتاج هذه الدولة،.. وبصراحة، لا أجد العملية السياسية الحالية قادرة على انتاج هذه الدولة، وبالذات نمطها المدني، والمصدات هنا ذاتية وموضوعية لا يمكن القفزعليها أو تجاهلها بسهولة.

  فعلى سبيل المثال: هل يمكن التأسيس لدولة مدنية في ظل (هجانة) طبيعة مشروع الدولة الفلسفي المتصل بماهيتها وهويتها؟ هل يمكن لديمقراطية الأعراق والطوائف المعتمدة كأساس لإنتاج الدولة توفير بنى دولة واضحة النسق على مستوى التشريع والقرار والمؤسسة، وهي التي تقوم وتتقوم على وفق مبادئ إنقسام السلطة والمحاصصة والتوافق المستبطن لحق النقض العرقي والطائفي؟

وكيف يمكن للديمقراطية التوافقية أن تشتغل وسط انهدام شبه كلي عانت وتعاني منه جميع بناءات وانساق المجتمع والدولة العراقية؟ ثم كيف يمكن تجاوز الكوابح الذاتية للأصل النظري للديمقراطية التوافقية وهي التي تستعيض عن المواطنة بالمكوّن العرقي والطائفي والإثني، وتتجاوز استحقاق الديمقراطية في صناعة القرار لحساب مطبخ التوافق، وتصيب أمة الدولة بمقتل جراء اعطائها الإعتراف والحماية لمبدأ المكون على حساب مبدأ المواطنة؟

  وأيضاً، هل يمكن التأسيس لثقافة مدنية مع احياء وتبني ثقافة الهويات الفرعية وتصدرها كفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية؟ وعن أية صيرورة للدولة (ومن ثم الثقافة والمدنية) نتكلم ولم تحسم بعد مراهنات الرؤى والإرادات الكبرى المتصلة بطبيعة الدولة وشكلها ومنظوماتها ومشروعها الإنساني؟ وكيف لنا معالجة انحلال المدينة وغياب قيم المدنية مع غياب مشروع الدولة القيمي والإقتصادي والثقافي؟

  أسئلة تتوقف أجوبتها على نمطية الحسم للصراع الدائر لكسب معركة الدولة،.. فيجب ألاّ ننسى، أنّ مصير الديمقراطية والمدنية هو مصير سياسي/ثقافي قبل أي اعتبار آخـر، وأنّ القيـم والضمانات والحواضن المدنية مرتبطة بنوع الدولة المراد انتاجها علـى أنقاض الدولة العراقيـة التقليديـة.

 

المطلوب

  لتحقيق النواة المدنية الصلبة التي ترتكزها جميع البناءات الفوقية من مجتمع ودولة وسلطات وفاعليات.. لابد من توافر ثلاثة شروط تتماهى في لحظة تاريخية مناسبة لتنهض بمشروع الدولة المدنية، وهي:

1- الكتلة التاريخية، وأعني بها، جماعة التأسيس التي توحد رؤاها واراداتها لتبني مشروع الدولة المدنية الديمقراطية. ان الكتلة التاريخية الصانعة للتاريخ هي مجموعة النخب التأسيسية التي تتنوع سياسياً وثقافياً واعلامياً واقتصادياً.

 

2- البناء الدستوري والقانوني القائم على وفق الأسس الديمقراطية المدنية، والذي يحسم نوع وهوية المشروع الإنساني والسياسي المدني الديمقراطي.

 

3- البرامج والسياسات المجسدة للمشروع المدني في كافة حقول المجتمع والدولة.

 

إنّ خط الشروع لتشكيل النواة المدنية الصلبة يجب أن يشهد لحظة تاريخية مناسبة لبدء مسيرة التحول في كيانية المجتمع والدولة، وهي لحظة يجب خلقها إن لم تتوافر، وهي لحظة وعي وإرادة وريادة تحمل التاريخ لأفق مغاير في جدلياته ومعاييره ومرتمساته، وهي وظيفة الكتلة التاريخية (الوطنية والإنسانية) التي تحمل على عاتقها صناعة التاريخ.

  إن انهدام الأمم وضياع فرص نهوضها التاريخي مقترن دوماً بريادة أو نكوص كتلتها التاريخية المعنية بمصيرها. واتصور أننا –عراقياً- لم نغادر بعد مربع التشكيل لمشروع الدولة، وهنا علينا توظيف هذه اللحظة الكونية لإنجاز الثلاثي العضوي المدني (الكتلة التاريخية والبناء الدستوري والبرامج والسياسات)، والعمل على  تراكمها والإنطلاق بها لتشكيل النواة المدنية الصلبة، لتبدأ مرحلة الصيرورة الجديدة للمجتمع والدولة.

 

الكتلة التاريخية المدنية

  أشدد على مصيرية مشروع الدولة على يد الكتلة التاريخية (على حد تعبير غرامشي)، فإنّ مشروع الدولة العراقية المدنية –بعد التغيير- رهن انبثاق الكتلة التاريخية السياسية المدنية العراقية المتحررة من الولاءات الخاصة والطموحات الضيقة، الكتلة التاريخية القادرة على توحيد رؤيتها للدولة وفلسفتها وهويتها ومشروعها، والمنبعثة لإعادة انتاج الذاكرة التاريخية (الدينية والمذهبية والقومية والسياسية) بشكل توظيفي بناء، والمؤهلة وعياً وأداءً لتجاوز التناقضات والنشوزات الراهنة التي خلفتها عهود الإستبداد وتداعيات الفوضى والإنقسام، والقادرة توظيف اللحظة التاريخية المناسبة لتبني مرتسمات نوعية للمدنية والتنمية والتطور.

  لم تتبلور بعد الكتلة التاريخية العراقية، والأمل معقود على الإنتخابات التشريعية في نسيان القادم لصعود قوى ونخب التيار المدني الديمقراطي الحامل لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية،.. فهل تكون لحظة انتخابات نسيان لحظة تحوّلية تجسد وعي وإرادة الأمة العراقية صوب تمكين مشروع الدولة المدنية الديمقراطية؟ سؤال برسم وعي وإرادة الناخبين العراقيين.

 

http://aladili.net/makalat1/1f.htm