استنساخ أزمة الدولة أم حلّها؟

   ها نحن اليوم على أعتاب بناءات جديدة لسلطات الدولة، فبين عشية وضحاها سيتم الإعلان عن تشكيل الحكومة،.. فهل سنستنسخ أزمَة الدولة أم نتلمس مخارج حلّها؟ سؤال يوجّه إلى مَن بيده فعل الدولة ومصيرها.

   أزماتنا الراهنة كثيرة لا أريد هنا استعراضها، بقدر ما أريد الوقوف على الأزمَة الأم المنتجة لأزماتنا المتكثّرة، إنها أزمة المعيار والأساس الذي تستنده العملية السياسية كفلسفة حكم وجوهر سلطات وطبيعة مصالح، والذي يتم استنساخه عند كل استحقاق انتخابي سياسي حتى خلافاً للدستور المؤسِس لبنية صالحة للدولة نظريا. فهناك معياراً صلداً للعملية السياسية ما زال قائماً ليشكّل النواة الصلبة للأزمة، وبه ومن خلاله تدار الدولة، وهو ومنذ الخلاص من الدكتاتورية 2003م يتمثل بمعادلة: المكوّن (العرقي الطائفي الإثني)+سلطة المكوّن (وزارات ومؤسسات وهيئات)+الحزب التمثيلي (الممثّل للمكوّن والمتمتع بسلطاته)= نظام المحاصصة العرقطائفي الحزبي للدولة،.. هنا تكمن الأزَمة الأم للعملية السياسية، ومتى ما كُسر هذا المعيار/المعادلة عندها سنقول أننا قد حسمنا سكة التأسيس السليم للدولة وتجاوزنا استنساخ أهم أزماتها البنيوية، لننتقل بعدها لأزمات التخطيط والإدارة السليمة والفاعلة للدولة.

   أزمَة المعيار/المعادلة هذه تطلب تفكيكاً حكيماً وجريئاً وتدريجياً من قِبَل قوى الدولة اليوم، فلا يفيد مع أزمة التأسيس هذه الحلول الترقيعية والصفقات الإرضائية ولا يُدرك الحل بالتلفيق والتمييع والترحيل.. إنها أزمة تبنى عليها الدولة بجوهرها وأركانها كافة.

   دولتنا مأزومة منذ تأسيسها بفعل أزمة معيار الحكم الخفي والمعلن هذا، فقد قامت الدولة العراقية الحديثة على وفق ثلاثي: القومية/المذهب/الإحتكار، فأنتجت سلطة عرقية طائفية مستبدة، لتفقد الدولة بذلك علويتها وحياديتها وعدالتها وهويتها الوطنية الجامعة، ولتفقد بعد شرعيتها بفعل الإحتكار والتجيير والإستبداد،.. وما إن سقط نموذج الدولة هذا في 2003م حتى تم استنساخ فشل المعيار باعتماد نموذج الدولة التوافقية القائمة على وفق مبادىء: المكوّن العرقطائفي، والحكم التوافقي، والمحاصصة العرقطائفية الحزبية للدولة كمؤسسات، فنتج لدينا دولة الهويات العرقطائفية الحزبية المتصارعة على ثلاثي: السلطة/الثروة/السيادة.

   قبل 2003م كان لدينا مسمى دولة، هي سلطة ذات نواة عرقطائفية مركزية صلبة مستبدة بالدولة ومغامرة بها، وبعد 2003م أنتجنا مسمى دولة، هي تكدس سلطات لمكونات عرقطائفية متناشزة متصارعة على الدولة ومبتلعة لها،.. إنها خطيئة الجوهر المراد تكوين نواة صلبة للدولة على وفق معاييره، خطيئة مُستنسخة بلبوس جديد!! هنا يكمن وعي فشل مشروع الدولة العراقية، إنه فشل الجوهر الصلد لفكرة الدولة ولأسسها ومعاييرها من مواطنة وديمقراطية وتعددية ومدنية وقوى وطنية تشتغل على وفق فرضية الدولة الحديثة،.. هذا الفشل هو المسبب للأزمات والمنتج لها على طول الخط، فكان تاريخ دولتنا زمناً مستنسخاً لفعل سلطات لا تاريخاً تراكمياً لفعل دولة.

   ما لم يكن الحل بمستوى أزمة الدولة هذه، وما لم تتوافر قوى ونخب بمستوى المهمة التاريخية لبناء الدولة، وما لم تُستحضر وتُحكّم عناصر الوعي والحكمة وتغليب المصالح العامة، فإنَّ أي حل مهما كان لا يعدو أن يكون سوى استنساخاً للأزمة وتدويراً لها،.. عندها وبالتقادم والتراكم والتشظي للأزمة ستقتل الأزمة الدولة.

   تحتاج الدولة اليوم إلى كتلة حكم وطنية تاريخية قادرة على إدراك المأزق وتلمّس الحل وابداع خارطة طريق تنقذ الدولة من معادلة: المكوّن الفرعي/سلطة المكوّن/الحزب المتمتع بسلطة المكوّن، إلى معادلة: الأمّة الوطنية/سلطة المؤسسات/أحزاب دولة.