آباء التأسيس

  • للدول آباء تأسيس، وبنية أي دولة هي رهن القيم والمعايير والمشاريع التي أوسست عليها من قبل المؤسّسين. وكما أنَّ لحظات/مراحل تأسيس الدول أفضل اللحظات التي تدلّك على طبيعة الدولة ومعاييرها وسياساتها، كذلك، هي أفضل المقاطع بزمن الدولة التي تُظهر لك ماهية قوى التأسيس وطبيعة رجالها وطينتهم الفكرية السياسية القيمية.

  • بالطبع، لا وجود للحظة وطنية صرفة بتأسيس أي دولة سواء بتأسيسها الدفعي أم التراكمي، فلحظات تأسيس الدول هي لحظات كونية مُعقدة وشائكة بامتياز تدخل فيها وتتداخل عوامل عدة بما فيها الإرادات الخارجية،.. وأكثر الدول تدخلاً وتداخلاً كونياً بتأسيسها تلك التي أُنشئت بإرادة المنتصر العسكري. وقد ولدت العديد من الدول بإرادة المنتصر على مر التاريخ، فلحظات الحرب هي لحظات موت وولادة دول. وعليه لا يحمل أوسمة النجاح أو يتحمّل ضرائب الفشل لمشروع أي دولة آباء التأسيس الوطني وحدهم، بل إرادات الأجنبي تدخل بصميم نتائج الفشل أو النجاح للدول التي أُسست تحت وطأة مخططات ومصالح وأجندات المنتصر. لكن يبقى لآباء التأسيس الوطني الدور الكبير ببنية ومعايير بناء الدولة قبولاً أو رفضاً أو مساهمةً أو إبداعا، فقدراتهم على وعي تعقيد لحظة التأسيس والتعاطي الحكيم وبعيد النظر مع طبيعة الدولة الوليدة المراد إنتاجها، ومديات وطنيتهم وعصاميتهم وطهوريتهم، الأثر البالغ بنجاح أو فشل الدولة.
  • مرّت على الدولة العراقية الحديثة ثلاث لحظات تأسيس أنتجت ثلاث دول بعمر الدولة، لحظة 1921م أنتجت الدولة الملكية (1924-1958م)، لحظة 1958م أنتجت الدولة الجمهورية على تعدد عهودها (1958-2003م)، لحظة 2003م أنتجت دولة ما زالت تعيش إرهاصات التأسيس.
  • مهم أن نقف عند عتبة لحظات التأسيس الثلاث للدولة العراقية، نقف عندها بالتفكيك كمعايير وقيم ورجالات ومشاريع، لنرى كم هي صالحة أم طالحة على وفق مسطرة المشروع الوطني، لنستخلص منها عِبر التوظيف للقائم والقادم من محاولات بناء الدولة. علينا أن ندرس ونتدارس طبيعة آباء التأسيس للدولة، آيديولوجياتهم، ثقافتهم، خلفياتهم، نشأتهم وسلوكهم السياسي النفسي، ومديات حمكتهم وإرادتهم وطهوريتهم وجهوزيتهم لتبني المشروع الوطني،.. لنكتشف هل نجح آباء التأسيس بتأسيس مشروع دولة ترتكز المواطنة والعدالة والمساواة والخصوصية الوطنية على حساب المستورد من الأفكار أو المُستدعى من الذاكرة؟ وهل كانوا متحررين من أسر الهويات العرقية الطائفية والولاءات المناطقية والطموحات السلطوية ومن ارتهان الإرادة للأجنبي؟ هل اقتنصوا بعقل الحكمة وإخلاص الأب الدولة الوليدة من فم التناقضات والنشوزات والإستلاب لإعتماد مرتسمات صالحة لنجاح ووحدة وتطور الدولة المراد تأسيسها؟
  • هذه دعوة للباحثين لسبر غور لحظات التأسيس الثلاث للدولة العراقية الحديثة (1921-1958-2003م)، فمسيرة الدولة رهن لحظة/مرحلة التأسيس، فإذا ما كان التأسيس خاطئاً مشوهاً مستلباً فستفشل الدولة لا محالة. وأزعم، بأنَّ للدولة العراقية أزمنة مستنسخة من الفشل بلحظات التأسيس وليس تاريخاً تراكمياً ينضج بالمراحل ويتطور بالتراكم، لذلك لم نر سيرورة مستمرة للدولة العراقية بل هناك أزمنة سلطات ما تلبث أن تنهار بعد عقود لتعود الدولة إلى مربع التأسيس كما بدأته، وهكذا دواليك.
  • إرهاصات لحظة التأسيس 2003م لم تنته بعد،.. تحتاج الدولة إلى وعي وإرادة وحزم وطهورية آباء التأسيس الوطني لإنقاذها من الفوضى والاستلاب والمجهول.